*
لقد رأينا أن نصرف الاهتمام عن ظاهرة التأثر والتأثير إلى التحاور بين الآداب العالمية. والفرق بين الظاهرتين شاسع جذًا إذ يتعلق بتحول من الصوت الواحد، صوت الواثق من عطائه، المعتز بإشعاعه، إلى تعدد الأصوات وتصاديها والتفاعل بينها أخذا وعطاء، بالأدب (goethe) أي التحاور بينها قصد بلوغ نوع مما يسقيه قوت العالمي الذي تذوب فيه مختلف الروافد، ويعسر تمييز مساهمة هذا الأدب أو ذاك في إنشائه، وبناء نماذجه وأشكاله وابتداع قيمه الفتية والإنسانية. وهذه بالطبع عملية تلقائية ودقيقة جذًا تتأسس نتيجة تراكم التجارب شرقا وغربا، قديما وحديثا، عبر ثقافات مختلفة، ولغات مختلفة، لا فرق فيها بين ثقافة مهيمنة وثقافة دنيا، وثقافة غالبة وأخرى مغلوبة، ولا يقتدي فيها المغلوب بالغالب كما في شزع ابن خلدون، ولا تدخل فيها اللغاث إذا التقث في لسان واحد الضيم على الأخرى كما في شرع أبي عثمان الجاحظ، ولا تتصارع فيها الثقافات والحضارات من أجل هزم إحداها الأخرى وشيطنتها وإقصائها كما في شرع بعض الدعاة الأمريكيتين المعاصرين. إن هو إلاً تبادل وتحاور يقومان على الاختلاف والتعدد. وما الدعوة إلى الاستثناء الثقافي من طغيان العولمة إلا صورة إيجابية من هذا التعدد والحق في الاختلاف. وبالتالي فإن تحاور الآداب لا يعترف بالحدود مهما كانت إذ يقوم بين أطراف يمكن أن تكون متباعدة جذًا في المكان والزمان، وفي طبيعة الحضارات ومسالك التعبير والتفكير، كما يمكن أن تكون متقاربة جدًا تنتمي إلى نفس الثقافة ونفس اللسان.
Titre | ISBN | Volume |
---|
Titre | ISBN | Langue |
---|